]لم تكن زيارة الرئيس الإيراني محمود أحمدي نجاد للعاصمة العراقية بغداد مطلع هذا الشهر موفقة، لا بالمعيار السياسي ولا من جهة الحفاظ علي وحدة العراق وسلامه الطائفي، ولا فيما يتعلق بصورة إيران العربية.
مهما بذل نجاد من جهد لوضع ستار من التفاؤل وحسن الجوار علي زيارته، فقد وصل موكبه إلي عراق محتل، إلا انه لم يكن رأي زهاء المائتي ألف جندي أجنبي المنتشرين في أنحاء العراق، وقد استقبلته طبقة تحكم نظاماً تقسيمياً، ولم يكن مدهشاً أن يظهر القطاع الأكبر من العراقيين قليل اكتراث بزيارة نجاد وأن يخرج آخرون في مظاهرات حاشدة احتجاجاً عليها. إن كان المقصود من هذه الزيارة إظهار نفوذ إيران المتسع في الدولة العراقية الجديدة، باعتبارها شريكاً أساسياً للاحتلال الأمريكي، فقد أثار نجاد من الاستفزاز أكثر بكثير من مناخ نهاية التاريخ في العلاقة الإشكالية بعيدة المدي بين البلدين الجارين.
العراق الذي زاره نجاد هو عراق محتل بامتياز، ما كان للرئيس الإيراني أن يتجول في عاصمته بدون التواجد العسكري الكثيف في أنحاء هذه العاصمة، وما كان له أن يستضاف في منزل رئيسه طالباني لولا الحماية الهائلة التي توفرها القوات الأمريكية لهذا المنزل. ولا تتعهد قوات الاحتلال المسؤوليات الأمنية وحسب، بل ان إدارة الاحتلال هي الطرف السياسي الأهم والأكثر تأثيراً أيضاً في النظام العراقي. إدارة الاحتلال هي التي مررت دستور العراق، ببنيته الإثنية والطائفية، هي التي أشرفت علي نتائج انتخاباته واستفتاءاته، وهي التي توفر عوامل البقاء لحكومة المالكي التي غادرها من الوزراء والكتل السياسية ما كان يكفي لإطاحة عشر حكومات. وفي واشنطن، لا في بغداد، يقرر نصيب هذه الفئة أو تلك من أطراف الطائفية السياسية العراقية، ومنها أيضاً يصدر الضوء الأخضر لأن تجتاح قوات هذه الدولة أو تلك حدود العراق، أو أن تتهم هذه الدولة أو تلك بانتهاك سيادته. عندما يزور رئيس دولة ما دولة أخري خاضعة للاحتلال الأجنبي، فإن في زيارته تلك إقراراً ضمنياً بهذا الاحتلال. حتي زعماء الدول العربية الحليفة للولايات المتحدة، بما في ذلك تلك التي ساهمت بوجه أو آخر في غزو العراق، لم يقم أحد منهم بزيارة بغداد، ليس بسبب خصومة مفاجئة بينهم وبين واشنطن، بل لأنهم يدركون الدلالات القانونية والسياسية للزيارة. فكيف سوغ نجاد لنفسه زيارة بلد عربي ـ إسلامي خاضع للاحتلال الأجنبي، وكيف أمكن لمجلس الشوري الإيراني، وكافة مؤسسات الرقابة الإيرانية الأخري، غض النظر عن مثل هذه الخطوة؟ تحمل الزيارة إضافة إلي ذلك تأييداً إيرانياً لقيام الدولة العراقية الجديدة علي أسس انقسامية، طائفية وإثنية. طهران، بالطبع، لا يمكن أن تقبل استلهام النظام العراقي الذي تظهر كل تأييد ودعم له، أو أن يعاد بناء الدولة الإيرانية علي محاصصة فارسية واذرية وعربية وبلوشية، وشيعية وسنية كذلك. وليس بعيداً عن العراق، يعيش لبنان كابوساً متكرراً منذ استقلاله، نظراً لطبيعة نظامه الطائفي الذي تطالب قوي لبنانية متعددة، بما في ذلك تلك الحليفة لإيران، بالتخلص منه. فهل ينبع التأييد الإيراني للعراق الطائفي من سيطرة التشيع السياسي علي الدولة الجديدة؟ ألا يري نجاد ومستشاروه الابعاد الانتهازية السياسية في تأييد عراق طائفي، منقسم علي ذاته، في وقت تبذل الدولة الإيرانية كل جهد ممكن لتغطية مظاهر التوتر الطائفي والإثني داخل إيران، ورسم صورة لشعب موحد حول دولته ونظامه الحاكم؟
يدرك الرئيس نجاد أن الدولة العراقية الحالية لم تولد من ثورة شعبية ولا من تحول ديمقراطي، اللهم إلا إن تناسي ما شهده العراق قبل خمس سنوات من زيارته لبغداد. ولدت الدولة العراقية الجديدة من لحظة الاحتلال العاصفة والدموية، التي لم تزل تجر علي العراق كوارث تلو الأخري من الموت والدمار والنهب وإهدار الثروات. والقوي العراقية السياسية، التي يري نجاد في بعضها صديقاً لطهران وضماناً لنفوذها في العراق، أسست لدورها وموقعها بفضل التأييد الذي قدمته لمشروع الاحتلال والحماية التي وفرها الاحتلال لها. تحالف المصالح المتبادلة بين المحتلين والقوي الطائفية والإثنية السياسية هو الذي وضع أسس العراق الحالي، لا إرادة الشعب العراقي وأمانيه. لم يخرج العراقيون إلي الشوارع تأييداً لنظام المحاصصة الذي شكل مجلس الحكم؛ والطريقة التي مرر بها مشروع الدستور التقسيمي لم تكن أقل من فضيحة لكافة الأطراف التي شاركت فيها، ناهيك عن نزاهة نص دستوري تمت صياغته في ظل احتلال عسكري أجنبي. ولأن أحداً لا يعرف، ولا يجب لأحد أن يسعي إلي معرفة، الخارطة السكانية الطائفية والإثنية للعراقيين، فإن الدولة العراقية الجديدة تعكس ميزان القوي الطائفي والسياسي لا حقائق الواقع، ميزان القوي الذي تعتبر قوات الاحتلال مركز ثقله الرئيسي.
ولم يكن غريباً، بالتالي، أن تقابل زيارة نجاد معارضة شعبية، عبرت عنها الدوائر العراقية المعارضة للدولة الجديدة والأسس التقسيمية التي بنيت عليها. وقد جاءت هذه المعارضة من دوائر شيعية وسنية علي السواء، من عشائر الأنبار وصلاح الدين ومن عشائر الجنوب، بل وحتي من شخصيات وقوي عراقية مشاركة في العملية السياسية. المعارضون للزيارة رأوا فيها مؤشراً علي دور إيراني في تأبيد الدولة الانقسامية، الدولة التي لن تسمح لأن تقوم للعراق قائمة بعد اليوم. والمدهش، أن الزيارة لم تصادف معارضة أمريكية جدية، في الوقت الذي تتلبد سماء العلاقة بين إيران والولايات المتحدة بنذر الصراع والحرب؛ وكان يكفي لأن يبدي الأمريكيون مجرد الامتعاض حتي يمتنع المالكي وطالباني عن استقبال نجاد. ولكن الأمريكيين لم يبدوا امتعاضاً ما، وكأن لسان الحال يقول بأن الأمور تسير علي ما يرام، أمريكيا وإيرانياً، فيما يتعلق بمستقبل العراق، وأن واشنطن لا تري في زيارة نجاد والدعم الذي ترمز له للدولة العراقية الجديدة سوي مصلحة أمريكية.
وقد جاءت زيارة نجاد لبغداد وثمة مؤشرات متزايدة علي أن طهران تدفع بنفوذها في العراق في كل اتجاه ممكن: تؤسس تنظيمات مسلحة ترتبط مباشرة بالأجهزة الإيرانية، تخترق تنظيمات سياسية وميليشيات قائمة، تدفع بأعداد متزايدة من أعوانها إلي مواقع القرار الأمني والسياسي والاقتصادي في الدولة، وتتحول إلي شريك فعلي في صناعة النفط العراقية. هذا الاختراق الإيراني واسع النطاق لبنية الدولة العراقية الجديدة وأجهزتها ما كان ممكناً لولا هشاشة هذه الدولة والأسس الطائفية التي بنيت عليها. ولكن هذا الاختراق ينبئ أيضاً بالنوايا الإيرانية تجاه الجوار العربي، ويقدم مبرراً لحالة الاضطراب الهائلة التي تحيط بصناعة القرار العربي تجاه إيران، وبخطاب العلاقة العربية بإيران، سواء في الأوساط العربية الرسمية أو الشعبية. ثمة من يقول بالطبع أن النفوذ الإيراني في العراق يعبر عن مخاوف مضخمة، فيها من المبالغة أكثر من الواقع الحقيقي والملموس. ولكن مهما كان الأمر، فإن وجود مثل هذه المخاوف كان لابد أن يدفع الرئيس الإيراني إلي الامتناع عن زيارة (حملت كل سمات الاحتفاليات الانتصارية) لبلد عربي ـ إسلامي، جار، تعرض لغزو أجنبي هائل وما يزال يخضع للاحتلال الأجنبي.
المشكلة الأولية في سياسات إيران الخارجية لم تزل علي ما هي عليه منذ سنوات: الازدواجية وتعدد الأطر المرجعية لهذه السياسة. ولدت الجمهورية الإسلامية من ثورة شعبية كبري، واحدة من أهم الثورات الشعبية في القرن العشرين، ثورة إسلامية التوجه والهدف. ولكن ككل ظواهر العالم الحديث السياسية، ضمت الثورة أكثر من تيار فكري ومجموعة مصالح. وقد انعكست هذه التعددية السياسية علي بنية الجمهورية وطبقتها الحاكمة. لعب الليبراليون ـ القوميون دوراً مبكراً في قيادة الجمهورية، ولكن الصراعات السياسية الداخلية سرعان ما أطاحت بهم. الإسلاميون الذين تسلموا مواقع الحكم الأساسية منذ مطلع الثمانينات لم يشكلوا كتلة أيديولوجية واحدة؛ بينهم كان محافظون وإصلاحيون، بالمعني الإيراني للمحافظة والإصلاح، وبينهم إسلاميون قوميون، وإسلاميون طائفيون وإسلاميون يؤمنون بالتضامن الإسلامي الواسع. وربما يمكن القول بقدر من العمومية أن سياسة إيران الخارجية، منذ ما بعد الحرب العراقية ـ الإيرانية ووفاة الإمام الخميني، راوحت بين توجهات قومية وطائفية توسعية وتوجهات إسلامية جامعة. هذا لا يعني أن القرار السياسي الإيراني شهد تداولاً بين أنصار التوجهين، بل ان التوجهين يمكن أن يتجليا في ظل إدارة سياسية واحدة وفي الفترة الزمنية نفسها. السياسة الإيرانية تجاه فلسطين ولبنان، وبالرغم من أنها تصب أيضاً في دائرة المصالح القومية، إلا أنها في جوهرها ومسوغاتها أمام الرأي العام الإيراني سياسة إسلامية تضامنية. من ناحية أخري، تصعب رؤية التعاون الإيراني مع غزو أفغانستان وإطاحة طالبان بدون رؤية الدوافع الطائفية والقومية. وكذلك هي السياسة الإيرانية في العراق.
في هذا النمط من السياسات المزدوجة يمكن أن يكون الأمريكيون خصماً في موقع وحليفاً في موقع آخر، هدفاً في موقع وعامل تعزيز للنفوذ الإيراني في موقع آخر، شيطاناً في موقع ورحمة مقنعة في موقع آخر. ربما يمكن القول، بالطبع، أن المشكلة في هذ النمط من السياسات ليست مشكلة إيرانية، بل مشكلة التراجع العربي والتخبط الأمريكي. كما أن ليس من الصعب الاستنتاج بأن هذا النمط من السياسات قد أثبت نجاعته وعاد علي الدور والنفوذ الإيرانيين بعوائد لم تكن في حسبان الأصدقاء، ناهيك عن الحلفاء. فخلال سنوات قليلة، أصبحت إيران طرفاً في الصراع العربي ـ الإسرائيلي، عاملاً بارزاً في تحديد مستقبل لبنان، هدفاً لود حكام كابل ومعارضيهم في الوقت نفسه، وشريكاً لا يمكن تجاهله للأمريكيين في العراق، بدون أن تخسر ولو عشر ما خسرته الولايات المتحدة مالياً وبشرياً وعلي صعيد صورتها في المجال العربي ـ الإسلامي. السؤال الذي بات علي طهران أن تسأله هو إلي متي يمكن لهذا النمط من السياسات أن يستمر في الإتيان بالعوائد، وهل سيكون ممكناً للقيادة الإيرانية التنبؤ باللحظة التي ستنقلب فيها هذه السياسات إلي مصدر للخسائر؟
منقول[/list][/list][right][center]