قراءات في الأدب الفلسطيني لرشاد أبو شاور: الكتابة قضية وليست ترفا! مضي علي صدور هذا الكتاب قراءات في الأدب الفلسطيني لرشاد أبو شاور نيف وستة أشهر (دار الشروق: 2007) دو أن يثير انتباه الأوساط الأدبية في الصحافة اليومية والأسبوعية، علي الرغم مما تخصصه ـ في كثير من الأحيان ـ لما هو أقل منه قيمة من مساحات كبيرة تعرض فيها للإصدارات الجديدة، وحتي تلك التي مضي عليها طويل وقت.
ربما كان تقاعس الكاتب عن الانتساب لثلة معروفة من تلك التي تسمي نفسها جماعات أدبية متمركزة في هذه الصحيفة أو تلك هو الذي حال دون الاهتمام بكتابه الجيد المفيد، وأعوزه إلي من يشيد بكتابه إشادة تناسب المقام، ولا تشذ عن السياق.
فهو كتابٌ يضم أبواباً في القصة، والرواية، والمذكرات، والسيرة، فضلا عن الشعر، والشعراء.
ولأن رشادا لا يعدُّ نفسه في النقاد بدليل قوله: لستُ ناقداً محترفاً، وإنما أنا قارئ أولا، وقارئ أخيراً، متذوقٌ للقصة، والرواية، والشعر، وأكتب دون انتماء لمدرسة نقدية معينة... (ص10). وهو صاحبُ الخبرة في القصة، والأقصوصة، والرواية، وكتابة النثر المقال، والشهادات، والمسرحيات النثرية،إلا أنّ كتاباته هذه تتجاوز الانطباعات الذاتية التي نجدها عند القارئ المفتقر لما يعرف باسم التحيز الأدبي، فهو ـ أي المؤلف ـ قارئٌ عاديّ، بتعبير جونسون وفرجينيا وولف، لكنّ لديه خبرةً بقواعد السرد القصصي، وقواعد كتابة السيرة، وخبرةً في تذوّق الشعر المنظوم، تضاف إلي ذلك كله خبرةٌ عملية ـ حياتية ـ بغير قليل من أصحاب المؤلفات التي تم تناولها في هذا الكتاب.
فهو صديق الشهيد الراحل غسان كنفاني، وعلي فودة، وصديق لفواز عيد الشاعر، وصديق الراحل إحسان عباس، ومحمد القيسي، وصديق لمحمود شقير، وفاروق وادي، ومي صايغ، وليلي الأطرش، ومحمود الريماوي، ورسمي أبو علي، وأحمد عمر شاهين ـ رحمه الله ـ ومعين بسيسو،وعزالدين المناصرة، ومحمد إبراهيم لافي، وخالد أبو خالد، وغيرهم .. كثير.. ممن كتب عن أعمالهم في هذا الكتاب، فاجتمعت لديه الخبرة، والمعرفة، والذوق الأدبي، وحسن الاطلاع، والمتابعة عن كثب، وهذا قلَّ أن يجتمع لدارس.
عنوان الكتاب:
لا بدّ ـ في البداية ـ من توضيح نقطة في غاية الأهمية، وهي خلو الكتاب من أي نزوع جهويّ، أو قطري، أو إقليمي، علي الرغم من أن العنوان قراءات في الأدب الفلسطيني قد لا يرضي كثيرين من هواة التطبيع. فالمؤلف يري بوضوح ٍ أنّ الأدب العربي أيا كان المكان، والزمان، أدبٌ عربي واحد، متجانسٌ، لا يفرق بين أحد من فروعه وآخر. وتلك حقيقة ـ في رأيه ـ لا يختلف حولها اثنان. (ص9) . إنما الذي دعاه إلي هذه العناية بأدب فلسطين، واختياره هذا العنوان دون سائر العناوين، فهو الحرص علي إبراز دور فلسطين في الأدب العربي، لما في ذلك من تأكيد علي هويتها العربية المهددة بالطمس، والاستلاب، والتهويد، منذ وعد بلفور إلي أيامنا هذه. ومن هنا يري المؤلف واجبا علي النقاد المحترفين، والباحثين، والدارسين، ينبغي عليهم التصدي له، والنهوض به، وهو الكتابة حول الأدب الفلسطيني، بدلا من إهماله، وإسدال الصمت عليه، والتعتيم إذا كانوا يؤمنون فعلا بقومية فلسطين وعروبتها، لا بشيء آخر. ويذكُّرنا موقف المؤلف بموقف ابن بسام الشنتريني مؤلف كتاب الذخيرة في محاسن أهل الجزيرة الذي حققه ونشره الراحل إحسان عباس، حين سوغ عنايته بأدب الأندلس، دون غيرها من البقاع، قائلا ليُعْلم أن لأهل الجزيرة من الشعر والنثر ما لغيرهم من أهل الديار الإسلامية الأخري.
وكأنا بالمؤلف ها هنا يحذرنا من الموقف السائد، وهو عدم الاهتمام بأدب فلسطين العربي، فاستمرار هذا الموقف يعني أنَّ مصير فلسطين كمصير الأندلس، وهذا ما لا يرتضيه أديبٌ، ولا يقبل به مبدع.
غسان كنفاني:
ونقرأ في كتاب أبي شاور تفسيره لرموز غسان كنفاني في (ما تبقي لكم) فيقف بنا إزاء رمز الساعة مقارنا بين دلالة الرمز في الرواية ودلالته في رواية فوكنر الصخب والعنف يتذكر كونتن في تلك الرواية والده عندما أهداه الساعة التي ورثها عن جده قائلاً إنني لا أعطيك الساعة لتتذكر الزمن، بل لكي تنساه .(ص24) ولكن غسّاناً جعل الساعة رمزا لتذكـّر الزمن، لا للنسيان، لأن حامداً في الرواية لا ينبغي أن ينسي، إذ لو فعل لكان مصيره كمصير الثلاثة الذين جردهم أبو الخيزران من ساعاتهم، وأوراقهم النقدية، ورمي بجثثهم فوق مكب للنفايات، في روايته رجال في الشمس .
ليلي الأطرش:
وحول روايتي ليلي الأطرش وتشرق غربا 1988 وامرأة للفصول الخمسة 1990 يؤكد المؤلف في إضاءة للروايتين علي تحرر المرأة، وارتباطه بتحرر الوطن، والمجتمع، والإنسان. فهي ـ ليلي الأطرش ـ لا تفرق بين حظ المرأة من الحرية الفردية وحظ الرجل. فكلاهما يعانيان، وكلاهما يناضلان. والروايتان تعدان ـ في رأيه ـ كسبا للرواية العربية، لا من حيث الموضوع الذي تدوران حوله، وتنوسان في فضائه، وإنما أيضا من حيثُ البناء الفني، الذي تميز في روايتها الأولي بالعفوية، والانسياب التلقائي للزمن، في حين تميز في روايتها الثانية بالقدرة علي استخدام أساليب سردية جديدة، سواءٌ من حيث تنويع الراوي، أو التركيز علي المكان، وتوظيفه للدلالة علي تقلب الشخوص، أو الحوار، أو اللغة الشاعرية، التي تخلو من السوقية، والابتذال (48).
أما روايتها الأخيرة مرافئ الوهم فتذكـّر المؤلف بمسرحية هنريك إبسن بيت الدمية Doll's House فشخصية سلاف، في الرواية، يجد فيها ظلالا من شخصية المرأة نورا Nora في المسرحية المذكورة. كذلك شادن الراوي، وإذا كانت نورا في تلك المسرحية تصفق الباب، وهي تغادر بيت الزوجية، صونا لكرامتها، فإنَّ شادن الراوي، وسلاف، هما الأخريان، تضحيان من أجل الخيار نفسه. . في زمن آخر .. وفي بلاد أخري.. وفي عصر آخر يفترض أن المرأة فيه حققت بعض حريتها المنشودة . (51)
فالمؤلف يؤكد مراراً أن ليلي الأطرش تتناول موضوع المرأة دون حساسية كتلك التي نجدها لدي كاتبات ٍركبن موجة النسْوية من غير مواهب تذكر، إلا ما يجدنه من وصف لمشاهد جنسية تلفت النظر إليهن بعيداً عما يتطلبه الفن، ويتغياهُ الإبداع.
ومما يلفت النظر، ويسترعي الانتباه، أن المؤلف لا يُعْني بالكتاب المخضرمين فحسب، بل يوجّه النظر إلي المقلـّين منهم، وإلي الشداة.
ففي واحدة من دراساته الجيدة يتناول مجموعة قصص لنصري حجّاج عنوانها أعتقد أنني أحبُّ الحكومة وهو كاتبٌ مقلٌّ، وحضوره في الحياة الأدبية يكاد لا يذكر. وعلي الرغم من ذلك تضيف قصصه هذه بعداً جديداً يغني القصة في فلسطين، فهي قصص لا تتغني بإنجازات السلطة في رام الله، وإنما تنتقدُ، في حدة، وبجراءة، مؤكدة أنّ الإبداع ـ كما يقول همنغواي ـ لا مفرّ له من التحدي، والمعارضة، والصراع.
وادي وعصفور الشمس:
وعلي نحو ما يري في نصري حجاج كاتبا مقلا يري في فاروق وادي، الذي بدأ الكتابة في وسط الستينات. فأعماله المنشورة لا تتعدي مجموعة قصص واحدة المنفي يا حبيبتي وثلاث روايات هي: طريق إلي البحر و رائحة الصيف وأخيرا عصفور الشمس 2006. والواقع أنّ في هذه الرواية الكثير مما يستوقف المؤلف.
امتزاج الواقع بالأسطورة، تداخل الرمز بالمعني المباشر الصريح. الدهاء السردي، والمكر، الذي يجمع بين أساليب قديمة من ألف ليلة وليلة، وأخري مستحدثة . استخدام الأجواء الغرائبية، والسرد العجائبي fantastic narration المرآة و ضروب السِّحْر ومزج الحاضر بالماضي. والتنوُّع في الزمن.. وأخيرا عصفور الشمس الذي يمكن أن يكون نظيرا لطائر الفينيق.
فالرواية علي الرغم من السّرد المكثف، جاءت شخصياتها واقعية نابضة بالحياة، والبطولة، والحبّ، ومنها تنبعث عصافير الأمل، والفرح الآتي. (ص100) فهي إذاً من أدب القوة، الذي لا يجنح لليأس، كالذي يشيع في بعض الروايات السائدة اليوم، وإنما هو أدب يرسِّخ إرادة الصمود، والتحدي.
هزائم صغيرة:
ومن هذا الجيل المقلّ حسن حميد الذي صدرت له روايات منها رواية جسر بنات يعقوب التي اختيرت بين الروايات العربية المهمة في القرن العشرين. ومحمود الريماوي صاحب المجموعات القصصية السبع (2002) وإبراهيم زعرور مؤلف رواية ذئب الماء الأبيض التي يتساءل المؤلف عن أسباب تأخر صدورها علي الرغم مما فيها من صوفية مبسطة، وتركيز علي معاناة الفلاحين . وجمال قواسمي الذي يعد من كتاب الجيل الجديد، مؤلف المجموعة القصصية هزائم صغيرة . فهو قاصّ يمتلك جرأة كبيرة في استخدام الصورة، وتوظيف الدارجة بلا افتعال ولا تكلف، متنقلا من مشهد لآخر،ملقيا الضوء علي نفسية الشخصية، مانحاً القصة ـ لهذا السبب ـ نكهة محلية، تجمع بين الواقعية، والحيوية، والصدق. (156) ومن الجيل الجديد أيضا الكاتب فايز الرشيد، مؤلف المجموعة القصصية وداعاً أيها الليلك . وأحـــــمد رفيق عوض، مؤلف رواية بلاد البحر (2007) وصاحب الأعمال الروائية: العذراء والقرية، وقـدْرون، ومقامات العشاق والدراويش، وآخرالقرن، والقرمطي، وعكا والمملوك.
ويطول بنا الحديث إذا نحن تناولنا فصول هذا الكتاب فصلا تلو آخر. ومقالة بعد أخري. فهو كتاب يقع في نحو 400 صفحة، وله في السير والمذكرات ما يدور حول أنيس صايغ وحنا أبو حنا ونجاتي صدقي وحسين البرغوثي وإحسان عباس وجبرا إبراهيم جبرا. وله في تناول الشعر وقفات نافذة البصيرة إزاء شعر علي فودة، وفواز عيد، ومحمد إبراهيم لافي، وفدوي طوقان، ومعين بسيسو، وخالد أبو خالد، وعزالدين المناصرة وديوانه أنا لا أثق بطائر الوقواق، وآخرين لا يسمح ضيق المساحة المخصصة لهذه العجالة بذكر أسمائهم، وذكر عناوين مجموعاتهم الشعرية.
صفوة القول أن كتاب رشاد أبو شاور قراءات في الأدب الفلسطيني كتابٌ يلقي الضوءَ علي فرع من الفــــــروع التي تغذي الأدب العربي، وتصب في مجراه، وترفده بالجم الغزير من العطاء الذي يحافظ علي جذوة الإبداع، وروح الصمود، والقوة، مؤكداً أن الكتابة ليست تسلية ولا ترفاً، وإنما هي قضيةٌ قبل كل شيء.
وهو كتابٌ فيه من النقــــــد شيء، ومن التاريخ الأدبي شيء، ومن الانطباع والتذوق شيء، ومن الشهادة والخبرة أشياءُ أخري، وذلك بعض ما يطمئن إليه القارئ في هذا الكتاب، ويأنس.منقول