نعمتان عظميان
من فضل الله على المسلمين، وتمام نعمته عليهم: نعمتان عظيمتان، تميزت بهما هذه الأمة الخاتمة: (يختص برحمته من يشاء، والله ذو الفضل العظيم).
نعمة خلود القرآن
النعمة الأولى: هي خلود مصادر هذا الدين، وبقاؤها محفوظة بحفظ الله لها، فإن هذه الأمة هي الأمة الأخيرة، التي حملها الله آخر الرسالات، فليس بعد نبيها نبي، ولا بعد قرآنها كتاب، ولا بعد دينها شريعة، ولهذا لم يكل حفظ كتابها إلى أهلها كالكتب السابقة، بل تكفل بحفظه بنفسه، وقال في ذلك: (إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون)، والقرآن هو المصدر الأول لهذه الملة، والمنبع الأول للعقيدة والشريعة والسلوك.
ولقد صدق الواقع التاريخي هذا الوعد الإلهي أعظم تصديق، فقد مضت أربعة عشر قرنا أو تزيد على نزول هذا القرآن، وهو هو، كما أنزله الله، وكما تلاه رسوله على أصحابه، وكما كتب في عهد عثمان رضي الله عنه، تتناقله الأجيال، محفوظا في الصدور، متلو بالألسنة، مكتوبا في المصاحف.
ولا يوجد كتاب يحفظه ـ عن ظهر قلب ـ عشرات الألوف، ومئات الألوف من أبنائه، إلا القرآن العظيم، الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، تنزيل من حكيم حميد.
وحفظ القرآن ـ كما نبه الإمام الشاطبي رحمه الله ـ يتضمن حفظ السنة كذلك، لأن السنة هي البيان النظري والعملي للقرآن، لأن حفظ المبين يتضمن حفظ البيان معه.
نعمة السيرة النبوية
والنعمة الثانية: هي السيرة النبوية العاطرة، وهي سيرة متميزة لها خصائصها التي بينها المحققون من العلماء، فهي سيرة علمية مدونة، وسيرة تاريخية ثابتة، وسيرة مكتملة الحلقات، من الولادة إلى الوفاة، وهي سيرة شاملة جامعة، تجسد حياة النبي صلى الله عليه وسلم في وقائع وأحداث، ناطقة معبرة، هذه الحياة المتكاملة المتوازنة، التي نجد فيها الإسلام حيا، والقرآن مفسرا، والقيم الإسلامية تسعى بين الناس على قدمين، هذه الحياة هي التطبيق العملي للقرآن الكريم، كما قالت عائشة وقد سئلت عن خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت: "خلقه كان القرآن".
هذه الحياة هي التي يجد كل مسلم فيها أسوته المثلى، ومثله الأعلى، فقد أدبه ربه فأحسن تأديبه، وأنزل عليه الكتاب والحكمة، وعلمه ما لم يكن يعلم، وكان فضل الله عليه عظيما، وامتن به على المؤمنين، إذ بعثه رسولا منهم (يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين).
يقول الله تعالى: (لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيرا).
ولا يوجد عند اليهود ولا النصارى ـ ولا عند غيرهم من أصحاب الأديان الأخرى ـ مثل هذه السيرة الحية النابضة، الشاملة لكل مراحل الحياة، وكل جوانب الحياة، كما تصور ذلك كتب الشمائل النبوية، وكتب "الهدي النبوي": في المأكل والمشرب، في الملبس والزينة، في النوم واليقظة، في الحضر والسفر، في الضحك والبكاء، في الجد واللهو، في العبادة والمعاملة، في الدين والدنيا، في السلم والحرب، في التعامل مع الأقارب والأباعد، مع الأنصار والخصوم، حتى النواحي التي يسميها الناس "خاصة" في معاشرة الزوجات، كلها مروية محفوظة في هذه السيرة الكاملة.المثل الأعلى للحياة المتوازنة
والحق أن المثل التطبيقي الأعلى للتكامل وللتوازن بين المثال والواقع، بين القلب والعقل، بين الإيمان والعلم، بين الروح والمادة، بين الفردية والجماعية، بين حق الرب وحظ النفس. وإعطاء كل منها حقه بلا طغيان ولا إخسار ـ هو رسول الله صلى الله عليه وسلم ـ الذي أرسله الله رحمة للعالمين، وأنزل عليه القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان.
الرسول العابد الزاهد
فنراه في مجال العباد لربه، العابد الأول، الذي كانت قرة عينه في الصلاة، وكان يقوم الليل حتى تتفطر قدماه، ويبكي حتى تبلل دموعه لحيته، وتعجب زوجه عائشة من شدة تعبده وبكائه، وقد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، فيقول لها: "أفلا أكون عبدا شكورا".
وكان يصوم الاثنين والخميس من كل أسبوع غالبا، وأحيانا يديم الصيام حتى يظن من حوله أنه سيصوم الدهر كله، وأحيانا يواصل الليل بالنهار في الصيام، فيمضي يومين أو أكثر لا يتناول طعاما، بعد الغروب، وهو ما نهى عنه أصحابه ولهذا قالوا له: أتنهانا عن الوصال وتواصل؟ فقال: "وأيكم مثلي؟ إني أبيت يطعمني ربي ويسقيني"، فكانت من خصوصياته صلى الله عليه وسلم.
وكان دائم الذكر لله تعالى في كل أحواله: وعلى كل أحيانه، بقلبه ولسانه. وأذكاره وأدعيته ومناجاتاه لربه، يتجلى فيها أغنى قيم الصدق والإخلاص لله تعالى، والعبودية المتجردة لربها، كما أنها تمثل أروع المعاني، وأوضح الطموحاتالتي ينبغي أن ينشدها الإنسان الرباني لنفسه، ولمن يحب مصوغة في أحلى القوالب البلاغية، وأعذب الأساليب البيانية، التي تهز الكينونة البشرية من أعماقها، وهي وحدها مدرسة روحية فذة.
وقد حفلت بها كتب الحديث والسيرة، وألفت فيها كتب خاصة، قديما وحديثا، لعل أحدثها كتاب شيخنا الشيخ محمد الغزالي "فن الذكر والدعاء عند خاتم الأنبياء".
وكان صلى الله عليه وسلم، برغم تعبده لربه، واشتغاله بذكره، وقيامه الدائم بالدعوة إلى دينه، والجهاد في سبيله، دائم الخشية له سبحانه، كثير الاستغفار، كثير التوبة، وهذا من كمال عبوديته، وعظم مقام الألوهية عنده، وفي هذا كان يقول: "إنه ليغان على قلبي، وإني لاستغفر الله في اليوم مائة مرة"، "يا أيها الناس توبوا إلى ربكم، فإني أتوب إلى الله عز وجل في اليوم مائة مرة".
وكان صلى الله عليه وسلم أزهد الناس في الدنيا، وأرضاهم باليسير منها، مع ما فتح الله له من الفتوح، وأفاء عليه من الغنائم، وبعد أن أصبح سيد الجزيرة.. ولكنه لقي ربه ولم يشبع من خبر الشعير ثلاثة أيام متوالية، وكان الشهر يمر تلو الشهر ولا يوقد في بيته نار، إنما عيشه على الأسودين: التمر والماء.. وكان ينام على الحصير حتى يؤثر في جنبيه.. ورآه عمر بن الخطاب يوما كذلك، فبكى توجعا له وإشفاقا عليه، واقترح عليه بعضهم أن يهيئوا له فراشا ألين من هذا، فقال لهم: "ما لي وللدنيا؟ ما مثلي ومثل الدنيا إلا كراكب سار في يوم صائف، فاستظل تحت شجرة ساعة من نهار، ثم راح وتركها"!الرسول والإنسان
ولكنه صلى الله عليه وسلم مع هذه الروحانية العالية، في ذكره وشكره وحسن عبادته لربه، وفي زهادته في دنيا الناس، وعيشه فيها بشعور الغريب، وعابر السبيل!.. لم يغفل الجوانب الأخرى بما تفرضه من أعباء، وما تمثله من مطالب، لم ينس أنه إنسان وزوج وأب وجد، وقريب، وجار، وصديق، ورئيس، وقائد.. وأن كل علاقة من هذه لها حقوقها.
ولهذا رأيناه إنسانا يرضى كما يرضى البشر، ويغضب كما يغضب البشر، ويفرح كما يفرحون، ويحزن كما يحزنون.
ولكنه إذا رضى لم يدخله رضاه في باطل، وإذا غضب لم يخرجه غضبه عن الحق، وإذا فرح لم يفرح بغير الحق، وإذا حزن لم يخرجه حزنه عن الصبر والرضا، ويشارك أصحابه في مسراتهم، ولا يخرجه ذلك عن الوقار.
ويضحكه بعض أصحابه فيضحك، ويمزح أحيانا، ولكن لا يقول إلا حقا، ويأذن للحبشة أن يرقصوا بحرابهم في مسجده، ويعرف طبيعة الأنصار، فيقول في عرس لأحدهم: "أما كان معهم لهو؟ فإن الأنصار يعجبهم اللهو" ويسمح لجاريتين أن تغنيا في بيته في يوم عيد "حتى يعلم اليهود أن في ديننا فسحة، وأنى بعثت بحنيفية سمحة".الزوج المثالي
رأيناه زوجا يحسن عشرة أزواجه، ويعدل بينهن فيما يقدر عليه، ويطيب أنفسهن، ويصالح بينهن، ويقدر الظروف الخاصة لكل منهن، ويستمع أحيانا إلى قصصهن وإن طالت، كما في حديث أم زرع المشهور، وبرغم همومه ومشاغله التي تنوء بها الجبال، يداعب ويمازح، كما رأيناه يسابق عائشة، فتسبقه مرة، ويسبقها مرة، ويسبقها أخرى، فيقول لها: "هذه بتلك".الأب والجد
رأيناه أبا يحب أبناءه وبناته، ويحرص على كل خير لهم في الدنيا والآخرة، مات ابنه إبراهيم، فحزن عليه، ودمعت عيناه، ولم يجد في ذلك ما ينافي الصبر والرضا، بل قال: "تدمع العين ويحزن القلب، ولا نقول إلا ما يرضي الرب، والله إنا بفراقك يا إبراهيم لمحزونون".
وحين أراد علي بن أبي طالب رضي الله عنه أن يتزوج على فاطمة الزهراء رضي الله عنها، ابنة أبي جهل لعنه الله، غضب وقال: "إن فاطمة بضعة مني، وأنا أتخوف أن تفتن في دينها، وإني لست أحرم حلالا، ولا أحل حراما، ولكن والله لا تجتمع بنت رسول الله وبنت عدو الله تحت رجل واحد أبدا".
رأيناه جدا يلاعب سبطيه: الحسن والحسين، ويوطئ لهما ظهره ليركباه، بأبي هو وأمي، ويركب أحدهما على ظهره الشريف مرة وهو يصلي فيطيل الصلاة، حتى ظن الصحابة الظنون، فلما فرغ وسلم، سألوه عن سر إطالة سجوده، فقال: "إن ابني ارتحلني (أي اتخذني راحلة وركوبة!)، فكرهت أن أعجله". أي أنه لم يشأ أن يقطع على الصبي لذته في امتطاء ظهر جده.
ويقول عن الحسن والحسين: "إن ابني هذين ريحانتاي من الدنيا".رئيس الدولة
رأيناه رئيسا لدولة جديدة، تحيط بها العداوات منكل جانب: وثنية ويهودية ونصرانية، فلم يشغله هم الجهاد والإعداد لمقاومة أعدائها، عن العناية بالشئون الداخلية لأهلها، من بناء المسجد للصلاة، إلى إقامة السوق للتجارة.. ومن إقامة العلاقات السياسية بين الطوائف التي تسكن المدينة وضواحيها، وهي دار الإسلام في ذلك الوقت، على أساس واضح مكتوب في وثيقة دستورية معروفة، إلى العناية بأمر هرة حبستها امرأة حتى ماتت جوعا، فلا هي أطعمتها، ولا هي تركتها تأكل من خشاش الأرض.. ومن لقاء الوفود من أنحاء الجزيرة، وإرسال الرسل إلى ملوك الأرض المعروفين، إلى الاهتمام بأمر أمة تأخذ بيده، وتمضي في طرقات المدينة، فلا يدع يده من يدها (توضعا وحياء منه) حتى تقضي حاجتها
منقول