كراهة الصلاة في المساجد المبنية على القبور
بعد أن انتهينا من الإجابة عن الشبهات المتقدمة ، وتبين منها للقارئ الكريم أن تحريم بناء المساجد على القبور حكم ثابت مقرر إلى يوم الدين ، وفرغنا من بيان حكمة التحريم ، يحسن بنا أن ننتقل إلى مسألة أخرى هي من لوازم الحكم المذكور ، ألا وهي حكم الصلاة في هذه المساجد المبنية على القبور .
ذكرنا فيما سبق (ص30) أن النهي عن بناء المساجد على القبور يستلزم النهي عن الصلاة فيها من باب أن النهي عن الوسيلة يستلزم النهي عن الغاية بالأولى والأحرى ، فينتج من ذلك أن الصلاة في هذه المساجد منهي عنها ، والنهي في مثل هذا الموضع يقتضي البطلان كما هو معروف عند العلماء 1 ، وقد قال ببطلان الصلاة فيها الإمام أحمد وغيره ، ولكنا نرى أن المسألة تحتاج إلى تفصيل فأقول :
قصد الصلاة في المساجد المبنية على القبور يبطل الصلاة
إن للمصلي في المساجد المذكورة حالتين :
الأولى : أن يقصد الصلاة فيها من أجل القبور والتبرك بها كما يفعله كثير من العامة ، وغير قليل من الخاصة !
الثانية : أن يصلي فيها اتفاقاً لا قصداً للقبر .
ففي الحالة الأولى لا شك في تحريم الصلاة فيها بل وبطلانها ، لأنه إذا نهى صلى الله عليه وسلم عن بناء المساجد على القبور ، ولعن من فعل ذلك ، فالنهي عن قصد الصلاة فيها أولى ، والنهي هنا يقتضي البطلان كما سبق قريباً .
كراهة الصلاة في المساجد المذكورة ولو لم تقصد من أجل القبر
وأما في الحالة الثانية ، فلا يتبين لي الحكم ببطلان الصلاة فيها ، وإنما الكراهة فقط ، لأن القول بالبطلان في هذه الحالة لا بد له من دليل خاص ، والدليل الذي أثبتنا به البطلان في الحالة السابقة إنما صح بناء على النهي عن بناء المسجد على القبر ، فيصح القول بأن قصد الصلاة في هذا إلا مع تحقق قصد البناء ، فيصح القول ببطلان الصلاة فيه دون قصد ، فليس عليه نهي خاص يكمن الاعتماد عليه فيه ولا يمكن أن يقاس عليه قياساً صحيحاً بله اولوياً .
ولعل هذا هو السبب في ذهاب الجهمور إلى الكراهة دون البطلان ، أقول هذا معترفاً بأن الموضوع يحتاج إلى مزيد من التحقيق ، وأن القول بالبطلان محتمل ، فمن كان عنده علم في شئ من ذلك ، فليتفضل ببيانه مع الدليل مشكوراً مأجوراً .
وأما القول بكراهة الصلاة في المساجد المبنية على القبور ، فهذا أقل ما يمكن أن يقوله الباحث ، وذلك لأمرين :
الأول : أن في الصلاة فيها تشبهاً باليهود والنصارى الذين كانوا ولا يزالون يقصدون التعبد في تلك المساجد المبنية على القبور 2.
الثاني : أن الصلاة فيها ذريعة لتعظيم المقبور فيها تعظيماً خارجاً عن حد الشرع ، فينهى عنها احتياطاً وسداً للذريعة ، لا سيما ومفاسد المساجد المبنية على القبور ماثلة للعيان كما سبق مراراً ، وقد نص العلماء على كل من العلتين ، فقال العلامة ابن الملك من علماء الحنفية :
" إنما حرم اتخاذ المساجد عليها ، لأن الصلاة فيها استناناً بسنة اليهود ".
نقله الشيخ القاري في " المرقاة " (1/470) وأقره ، وكذلك قال بعض العلماء المتأخرين من الحنفية وغيرهم كما سيأتي .
وقد قال شيخ الإسلام ابن تيمية في " القاعدة الجليلة " (ص22):
" واتخاذ المكان مسجداً هو أن يتخذ للصلوات الخمس وغيرها ، كما تبنى المساجد لذلك ، والمكان المتخذ مسجداً إنما يقصد فيه عبادة الله ودعاؤه لا دعاء المخلوقين ، فحرم صلى الله عليه وسلم ، أن تتخذ قبورهم مساجد تقصد للصلوات فيها كما تقصد المساجد ، وإن كان القاصد لذلك إنما يقصد عبادة الله وحده ، لأن ذلك ذريعة إلى أن يقصدوا المسجد لأجل صاحب القبر ودعائه والدعاء عنده ، فنهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن اتخاذ هذا المكان لعبادة الله وحده لئلا يتخذ ذريعة إلى الشرك بالله .والفعل إذا كان يفضي إلى مفسدة وليس فيه مصلحة راجحة ، ينهى عنه كما ينهى عن الصلاة في الأوقات الثلاثة ، لما في ذلك من المفسدة الراجحة ، وهو التشبه بالمشركين الذي يفضي إلى الشرك ، وليس في قصد الصلاة في تلك الأوقات مصلحة راجحة لإمكان التطوع في غير ذلك من الأوقات ، ولهذا تنازع العلماء ي ذوات الأسباب 3 فسوغها كثير منهم في هذه الأوقات ،وهو أظهر قولي العلماء ، لأن النهي إذا كان لسد الذريعة أبيح للمصلحة الراجحة ، وفعل ذوات الأسباب يحتاج إليه فيه هذه الأوقات ، ويفوت إذا لم يفعل فيها مصلحتها ، فأبيحت لما فيها من المصلحة ، بخلاف ما سبب له ، فإنه يمكن فعله في غير هذا الوقت ، فلا تفوت بالنهي عنه مصلحة راجحة ، وفيه مفسدة توجب النهي عنه . فإذا كان نهيه عن الصلاة في هذه الأوقات لسد ذريعة الشرك ، لئلا يفضي ذلك إلى السجود للشمس ودعائها وسؤالها كما يفعله أهل دعوة الشمس والقمر والكواكب الذين يدعونها ويسألونها ، كان معلوماً أن دعوة الشمس والسجود لها هو محرم لنفسه ، وأعظم تحريماً من الصلاة التي نهى عنها لئلا يفضي إلى دعاء الكواكب ، كذلك لما نهى عن اتخاذ قبور الأنبياء والصالحين مساجد ، فنهى عن قصدها للصلاة عندها ، لئلا يفضي ذلك إلى دعائهم ـ كان دعاؤهم والسجود أعظم تحريماً من اتخاذ قبورهم مساجد ".
واعلم أن كراهة الصلاة في هذه المساجد هو امر متفق عليه من العلماء ، كما سبق بيانه (ص 44) ويأتي ، وإنما اختلفوا في بطلانها وظاهر مذهب الحنابلة أنها لا تصح ، وبه جزم المحقق ابن القيم كما تقدم (ص 41ـ43) ، وقال شيخ الإسلام ابن تيمية في " اقتضاء الصراط المستقيم مخالفة أصحاب الجحيم " (ص159) :
" فهذه المساجد المبنية على قبور الأنبياء والصالحين والملوك وغيرهم يتعين إزالتها بهدم أو بغيره ، هذا مما لا اعلم فيه خلافاً بين العلماء المعروفين ، تكره الصلاة فيها من غير خلاف أعلمه ، ولا تصح عندنا في ظاهر المذهب لأجل النهي واللعن الوارد في ذلك ، ولأجل أحاديث أخر ، وليس في هذه المسألة خلاف لكون المدفون فيها واحداً ، وإنما اختلف أصحابنا في المقبرة المجردة عن مسجد ، هل حدها ثلاثة أقبر أو ينهى عن الصلاة عند القبر الفذ ، وإن لم يكن عنده قبر آخر ؟ على وجهين ".
قلت : والوجه الثاني هو الذي رجحه في " الاختيارات العلمية " فقال (ص 25) :" وليس في كلام أحمد وعامة أصحابه هذا الفرق ، بل عموم كلامهم وتعليلهم واستدلالهم يوجب منع الصلاة عند قبر واحد من القبور ، وهو الصواب ، والمقبرة كل ما قبر فيه ، لا أنه جمع قبر ، وقال أصحابنا : وكل ما دخل في اسم المقبرة مما حول القبور لا يصلى فيه ، فهذا يعين أن المنع يكون متناولاً لحرمة القبر المنفرد وفنائه المضاف إليه ، وذكر الآمدي وغيره ، أن لا تجوز الصلاة فيه ( أي المسجد الذي قبلته إلى القبر ) حتى يكون بين الحائط وبين المقبرة حائل آخر ، وذكر بعضهم أنه منصوص أحمد ".
قال أبو بكر الأثرم : سمعت أبا عبد الله يعني أحمد يسأل عن الصلاة في المقبرة ؟ فكره الصلاة في المقبرة ، قيل له : المسجد يكون بين القبور أيصلى فيه ؟ فكره أن يصلى فيه الفرض ، ورخص أن يصلى فيه على الجنائز .
وقال الإمام أحمد أيضاً : لا يصلى في مسجد بين المقابر إلا الجنائز ، لأن الجنائز هذه سنتها ". قال الحافظ ابن رجب في " الفتح " :
" يشير إلى فعل الصحابة ، قال ابن المنذر : قال نافع مولى ابن عمر : صلينا على عائشة وأم سلمة ، والإمام يومئذ أبو هريرة وحضر ذلك ابن عمر "4. انظر " الكواكب الدراري " (65/ 81/ 1و2) .
ولعل اقتصار الإمام أحمد في الرواية الأولى على ذكر الفرض فقط لا يدل على أن غيره من السنن جائز ، فإن من المعلوم أن النوافل صلاتها في البيوت هو الأفضل ولذلك لم يذكرها مع الفرض ، ويؤيده عموم قوله في الرواية الثانية " لا يصلى في مسجد بين المقابر إلا الجنائز ". فهذا جائز نص فيما قلناه .
ويؤيده المنصوص عن أحمد ما تقدم عن أنس :
" كان يكره أن يبنى مسجد على القبور "
فإنه صريح على أن جدار المسجد لا يكفي حائلاً بينه وبين القبر ، بل لعل هذا القول ينفي جواز بناء المسجد بين القبور مطلقاً ، وهذا هو الأقرب لأنه حسم لمادة الشرك .
ثم قال شيخ الإسلام ابن تيمية في " الاقتضاء " :
" وقد كانت البُنية التي على قبر إبراهيم عليه السلام مسدودة لا يُدخل إليها إلى حدود المائة الرابعة ، فقيل إن بعض النسوة المتصلات بالخلفاء رأت في ذلك مناماً فَنُقِبت لذلك! وقيل : إن النصارى لما استولوا على هذه النواحي نقبوا ذلك ، ثم تُرك ذلك مسجداً بعد التفوح المتأخرة ، وكان أهل الفضل من شيوخنا لا يصلون في مجموع تلك البنية ، وينهون أصحابهم عن الصلاة فيها اتباعاً لأمر الرسول صلى الله عليه وسلم ، واتقاء لمعصيته كما تقدم ".
هكذا كان شيوخهم فيما مضى ، وأما شيوخنا اليوم فهم في غفلة من هذا الحكم الشرعي ، فكثير منهم يقصدون الصلاة في مثل هذه المساجد ، ولقد كنت أذهب مع بعضهم ــ وأنا صغير لم اتفقه بالسنة بعد ــ إلى قبر الشيخ ابن عربي لأصلي معه عنده! فلما أن علمت حرمة ذلك باحثت الشيخ المشار إليه كثيراً في ذلك حتى هداه الله تعالى ، وامتنع من الصلاة هناك ، وكان يعترف بذلك لي ، ويشكرني على أن كنت سبباً لهدايته ، رحمه الله تعالى وغفر له . والحمدلله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله .
كراهة الصلاة في المسجد المبني على القبرو ولو دون استقباله
واعلم أن كراهة الصلاة في المساجد المبنية على القبور مضطردة في كل حال ، سواء كان القبر أمامه أو خلفه ، يمينه أو يساره ، فالصلاة فيها مكروهة على كل حال ، ولكن الكراهة تشتد إذا كانت الصلاة إلى القبر ، لأنه في هذه الحالة ارتكب المصلي مخالفتين ، الأولى في الصلاة في هذه المساجد ، والأخرى الصلاة إلى القبر ، وهي منهي عنها مطلقاً سواء كان المسجد أو غير المسجد بالنص الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، كما تقدم (ص24) .
أقوال العلماء في ذلك
وقد أشار إلى هذا المعنى البخاري بقوله في " الصحيح " :" باب ما يكره من اتخاذ المساجد على القبور ، ولما مات الحسن بن الحسين بن علي رضي الله عنه ضربت امرأته القبة على قبره سنة ثم رفعت فسمعوا صائحاً يقول : " ألا هل وجدوا ما فقدوا ؟ فأجابه الآخر : بل يئسوا فانقلبوا " ثم ساق بعض الأحاديث المتقدمة ، فقال الحافظ ابن حجر الشافعي في شرحه :
" ومناسبة هذا الأثر للباب أن المقيم في الفسطاط لا يخلو من الصلاة هناك ، فليزم اتخاذ المسجد عند القبر ، وقد يكون القبر في جهة القبلة فتزداد الكراهة "5.
وذكر نحوه العيني الحنفي في ((عمدة القارىء))(4/149)وفي((الكوكب الدري علىجامع الترمذي))لشيخ المحقق محمد يحيى الكاندهلوي الحنفي مانصه (ص153):
((وأما أتخاذ المساجد عليها,فلما فيه من التشبيه باليهود واتخاذهم مساجد على قبور أنبيائهم وكبرائهم ، ولما فيه من تعظيم الميت وشبهٍ بعيدة بعبدة الأصنام ، لو كان القبر في جانب القبلة ، وكراهة كونه في جانب القبلة أكثر من كراهة كونه يميناً أو يساراً وإن كان خلف المصلي فهو أخف من كل ذلك ، لكن لا يخلو عن كراهة ".
وفي " شرعة الإسلام " من كتب الحنفية ما نصه (ص 569) :
" ويكره أن يبنى على القبر مسجد يصلى فيه ".
فهذا باطلاقه يؤيد ما ذكرنا من أقوال العلماء وتقدم نحوه عن الإمام محمد رحمه الله تعالى (ص 58) .
ففي هذه النقول ما يؤيد ما ذهبنا إليه في كراهة الصلاة في المساجد المبنية على القبور مطلقاً ، سواء صلى إليها أو لا ، فيجب التفريق بين هذه المسألة وبين الصلاة إلى القبر الذي ليس عليه مسجد ، ففي هذه الصورة إنما تحقق الكراهة عند استقبال القبر ، على أن بعض العلماء لم يشترطوا أيضاً الاستقبال في هذه الصورة فقال بالمنع من الصلاة حول القبر مطلقاً ، كما تقدم تقريباً عن الحنابلة ، ونحوه في " حاشية الطحاوي " على " مراقي الفلاح " من كتب الحنفية (ص208) ، وهذا هو اللائق باب سد الذرائع لقوله صلى الله عليه وسلم :" . . . فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه ، ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام ، كالراعي يرعى حول الحمى يؤشك أن يقع فيه ..) الحديث 6
--------------------------------------------------------------------------------
1 قلت ، وذلك لأن الصلاة في هذه المساجد منهي عنها بعينها ، ولهذا فرق العلماء بين أن يكون النهي لمعنى يختص بالعبادة فيبطلها ، وبين أن لا يكون مختصاً بها فلا يبطلها انظر توضيح هذه المسألة الهامة وبعض الأمثلة في " جامع العلوم والحكم " للحافظ الفقيه ابن رجب الحنبلي (ص43) .
2 قرأت مقالاً في مجلة " المختار" عدد مايو 1958م تحت عنوان " الفاتيكان المدينة القديمة المقدسة " يصف فيه كاتبه " رونالد كارلوس بيتي " كنيسة بطرس في هذه المدينةى فيقول (ص40) :
" إن كنيسة بطرس هي أكبر كنيسة من نوعها في العالم المسيحي ، تقوم على ساحة مكرسة للعبادة المسيحية منذ أكثر من سبعة عشر قرناً ، إنها قائمة على قبر القديس نفسه ، صياد السمك ، حواري المسيح ، وتحت أرضيها يقع تيه من المقابر الأثرية ، والخرائب الرومانية القديمة ".
ثم ذكر أ نه يقصدها نحو مائة ألف في أيام الاعياد الكبيرة للعبادة .
3 قلت: يعني الصلوات ذوات الأسباب كركعتي تحية المسجد وسنة الوضوء ونحوها .
4 قلت: هذا الأثر أخرجه عبد الرزاق في "المصنف"(1/407/1594) بسند صحيح عن نافع به
5 ونقل الشيخ محمد بن مخيمر من علماء الأزهر في " القول المبين " (ص81) عن الحافظ ابن حجر أنه قال في " شرح الفتح " لحديث ذي الخلصة من " صحيح البخاري " في الكلام على الغزوات ما نصه :
" وفي الحديث النهي عن الصلاة في المساجد التي فيها قبور يفتتن الناس بها ، وأنه يجب إزالتها ".
قلت : ولم أره في المكان المذكور من " الفتح " فيحتمل أن يكون في موضع آخر منه . والله أعلم
6 متفق عليه من حديث النعمان بن بشير ، وهو مخرج في " تخريج الحلال " (20).
منقول